عاشقة..مراكش.. -..كانت (أوستين) فتاة ليست كباقي فتيات الشمال..إنها سريعة الغضب ،دقيقة الفهم.صغيرة الحجم،رشيقة الحركة،ناعمة الصوت،شديدة سواد الشعروبياض البشرة. إنها عند كل حلقة بصفها الدراسي تحوم كلمات زميلاتها عن قضاء العطلة الصيفية بموجة دافئة تشد بها الرحال من الحنين و العشق الى قرية صغيرة..تملها بإلف العادة،قرية غنية بالوان الشؤم و الشر..نظرة واحدة إليها تحت وطأة الظلام و الجفاف يجعلك تنظر إلى الدنيا و إلى كل ما يجري على أرضها،نظرة ليس فيها شيء من لون النور الذي كان يمتله عشقها.
و رغم ذلك كله كان عشقها الحلم الأكبر و الأعظم الذي كان يملك عليها خيالها كله،و كيانها و حواسها..إنها كانت تحتفظ به سرا خاصا تفضي به دموعا حارة ببراءة عذراء إلى قلبها العاشق الذي نقشت على بابه صفحة عنونتها بعنوان "عاشقة..مراكش ؟".لكي لا تدنسها ايادي تجهل قيمة ترك شيء ما في نفس حزينة .كالاثر الذي تركه فيها حنينها إلى وردة حمراء بين النخيل.
فلقد كانت تعشقها ،و كانت حواسها كلها معلقة بهمساتها ..بهدوئها .ولآنها كانت تعشق الهدوء .فقد انتظرت حتى ولد شهر ذو الحجة ..حتى هدأ كل المغاربة من شراء الآضحية ،حتى ذبحت الآكباش،حتى سكنت الحركة بطنجة و نامت أعين العشاق بمراكش..ثم استعدت أوستين راشدة في ربيعها السابع عشر بفرحة عارمة. كان سرها في فرحتها، و كانت فرحتها هذه بعضا من حلمها وهي تودع أمها بقبلة في خشوع و صمت، ثقة لم تمنع رضاءها حين اكتفت بقولها .{اعتني بنفسك يا صغيرتي .و بلغي تحيتي إلى ناس القرية ...}،فأجابتها بابتسامة و هي تحاول ان تنسيها مرارة ماض ليس ببعيد، ماض عادت صورته إلى الذهن ..{لا عليك أمي ؟ أنت حبيبتي أهواك ..؟ فلا تحزني إني سأكون بخير..}.
تحركت حافلة ستيام ،و امتقع لونها وأسرعت ضربات قلبها حينما عادت بها الذكرى إلى ماض سحيق..ماض زادته الأحدات بعدا في أعماق النسيان..و كان طبيعيا أن يحصل ذلك و هي تر جع شريط الزمن ليحيلها أخيرا عن بعض الوصايا التي كان يقدمها لها الشاب..الذي كان قد أهدى لها كلاما ذهبيا بعد سنتين حيت كانت تودعه بدمعتين كبيرتين قد ترقرقتا على خديها ، فمد يده و أمسك بها فأمالت رأسها على كتفه و طبع قبلة خفيفة على خدها ، و تنهدت سعيدة و قالت في هدوء و ببساطة :{كيف سأراك حبيبي مرة اخرى ؟و المشاكل تطاردنا ...}
{لا تقولي هذا ..إن الله معنا}
{نعم ..و لكن...}
{...و لكن أحبك ..و إني قادر ان أهديك روحي و الدم الذي يسري في عروقي }
{شكرا ..لا تجهد نفسك ؟أنا كذلك أحبك }...
فجأة سمعت صوت شاب بجانبها يسألها عن إسمها في أدب و حشمة قائلا {إنك جميلة ...؟}
{شكرا ..إني واثقة من ذلك }
{هل يمكن لك أن تقولي لي ما إسمك؟
{هل ضروري ذلك؟}
{لا...و لكن أود التعرف عليك؟}...
إنها مراهقة ذكية ..حين استطاعت إخفاءه بمهارة .و حين أقنعته بملامح وجهها أنها في رحلة عشق مستمرة مع الماضي الذي يخفق بالأمل ..إلى موعد...؟؟؟و عندها خاب أمله حين تنفس بعمق و بصوت مسموع .{معذرة ..لعلك لم تملي وجودي بجانبك ؟}سارعت قائلة .{لا...هل اقتربنا من مدينة مراكش؟}
{ إنها الساعة الخامسة صباحا ..بعد ساعتين إن شاء الله سنصل}
{حسنا..أشكرك..؟
كانت تعرف أنها اقتربت من نهاية رحلتها ..و لترضي مشاعرها .و ترضي ضميرها ..و لترضي الحلم الذي أدركها أن الحياة هي العشق الذي يناله من الدنيا الدنيئة إنسان في إنسان ...و تأملت وهي تطل من النافدة لتقع عيناها على امرأة عجوز أ يقظها في هذا الصباح ألم الفقر..الأمر الذي جعلها تدرك أن الحياة ليست سعادة، فقط.بل هي فرح و قرح،دمعة و إبتسامة .هزيمة و انتصار...
وقفت الحافلة..كل شيء جديد .. اشراقة شمس مراكش...يقظة رضيع بابتسامة براءة...بداية يوم جديد يملئه نوم عميق و عناء جراء قطع عشرات الكيلومترات..
وقفت "أوستين" بوجه شاحب كأنها في إنتظار آحد ما .حيت بقيت هادئة و أخذت هاتفها الصغير لتكتب رسالة؛{إنني أمام المحطة أنتظرك}. وهي ما تزال تنتظره غارقة في قلق..حتى إستقلت سيارة أجرة صغيرة ثم بعد ذلك أخرى كبيرة التي أوصلتها إلى فيلاج معروف ليس ببعيد عن آلقرية.فنظرت إلى شخص ما تعرفه ، فلم تجد إلا ذلك الهاتف النقال لتكتب رسالة آخرى..{إنني بالفيلاج ..لا تدعني لوحدي }.
كان الشاب ليس من عادته أن يقفل هاتفه النقال,ما عدا تلك الليلة التي سهرها مع أصدقائه خارج البيت بمناسبة عيد الأضحى.. إستيقظ بعد ساعة متأخرة من الصباح , ليأخد هاتفه النقال و عيناه نائمتان,لا يعلم بهدوء قوي ما تخبئه له هذه الذبذبات الإلكترونية .. أشغله و شعور ذكريات تتزاحم بمخيلته ،فجأة رن صوت إستقبال الرسائل،مد يده و مرت بباله خاطفة ،رسائل تهنئه من أحد أصدقائه بالجامعة أو إحدى الجمعيات لا أكتر ,لكن تغضنت ملامح وجهه و هو يضغط عن الزر ليقرأ..{..إني ..لا تدعني ..أين أنت ؟...}فلم يراجع نفسه حتى قام مسرعا ليتساءل إن كان الأمر صحيحا أم لا؟بل وجد نفسه يركب رقم هاتفها و هو يرتعش كمحموم و قلبه معلق بخيط بين حقيقة و افتراء ليقول..{أني أت حبيبتي...أين أنت الأن؟}ردت بسكون يصحبه نفس الإحساس – قناته موجات في السماء-{...اني وصلت لبيت جدتي بعد ساعة ...؟}..و كان قد تاكد حقيقة انه في يقظة ,و انه سيعيد سيناريو شريط زمن البيت الدي طالما كرهه لاكراهات الدهر و قوة الفقر و نكهة الشؤم الدي طبعه له سيداته- البيت- في قلبه يعود الكبريت المؤلم- عادت به الذكرى لتدميمه و هو يتحمل ايام سنوات لما كان ياتي اليها ,رغم ما يحمله من شوق لرؤيتها ..رؤية اقسى من جرح مفتوح فوقه ملح.
بقيت تنتطر وصوله في حركات بطيئة ..ترتب ملابسها ,و تنظف غرفتها ,و تتردد بإخفاق كيف ستستقبله لتقلب صفحات ماضيها و تعانقه ...فظهر و هو يمسك بيده طفلة صغيرة..عمرها سبع سنوات تدعى "ماري" التي تختزل سبع سنوات من الحب الذي شهدته بدون وعي ..؟.إستقبلتهما بدفىء لتقبل ماري قائلة ..{كيف حالك ؟إنك جميلة ..إجلسي },و تعانقه بصدق و شوق حار تحت كلام سريع .و لم يبق معها سوى دقائق معدودة ....
و مضت ساعات و افترقا .. قبل أن يلتقيا مرة ثانية في جو يملئه دفىء العشق و الحب الذي يسيطر على مشاعرهم ..و الحماس الذي حدد موعدا بعيدا عن القرية,بعيدا عن حقدها.فصار كل شيء وفق إتفاق وضعته بنفسها.
خرج صباحا متوجها إلى الجامعة و قلبه يخفق بموغد المساء,و بظن إنه الأخير ...وصلت بعد الظهر إلى نقطة التقاء الحياة,و ساحة العجائب,و برفقتها شاب طويل القامة, قوي العضلات, خشن الصوت.. كان يرشدها مازحا ببعض النكت الطريفة تارة, وسائلا عن علاقتها القوية هذه بأخيه تارة اخرى
تأخر بعد عدة مكالمات هاتفية.. إنه تمنى أن تطوى الأرض وصولا إليها, ليعانقها حنينا إليها, و هكدا وصل بوجه يملئه طل الصباح الباكر ,وإبتسامة رضيع بين أحضان أمه .. وجه تسلل هروبا من ضوضاء المتعطشين لرؤية نتائجهم الفصيلة..
ولاتزال في إنتظاره حتى و قعت يدان ناعمتان, صغيرتا الحجم على عينيها الحزينتين لتقول ..{أنت حبيبي..أين تأخرت ؟}فعانقها بحرارة ,و ضمها إليه قائلا..{ساميحني ...,و أضاف مبتسما ..{أهلا أخي...شكرا جزيلا}.
كانت تبدو و ضيئةو جميلة و هي تتابط دراعه ليسير في هدوء بين فاتني الثعابين و الأفعى و مروضي القردة و بين القوالين و المطربين هنا و هناك ,و بين أصحاب عربات العصير و مجموعة الكناوة في أقمصتهم القصيرة ذات اللون الأبيض,و سراويلهم العجيبة..وطبول رنانة رائعة ذات إيقاع مليء بالحيوية ,و رقصات غريبة تثير إنتباه الزائر إليها..؟
و بعد أن بعثت الشمس أخر أشعتها الذهبية بدفئها ,إكتست جامع الفنا حلة جديدة لتضيء رحابها بمصابيح كثيرة و متفرقة و بمضي الوقت صارت تأخد صور تذكارية مع خطيبها..هذه و هما يمشيان وسط عيون المارة..و أخرى مع مروض القردة,..و بقيا على هذه الحال إلى أن زاغت بهما خطاهما إلى أكشاك الجرائد ليسالها..{أنظري إلى هذه البطاقات المراكشية إذا أعجبتكي..؟}و عندها قالت ..{لا تشعرني بأني لست مراكشية..دعني أقول لك أني أعشقها أكثر منك},صمت قليلا ثم قال..{حسنا,و من قال هذا؟إن عشقك هذا هو مملكتي الصغيرة...}فإبتسمت مترددة ..{أه..عندما أسمع صوتك ..أرسم صورتك في عقلي ..و نفسي أرى إني سارحل .و أنا حاملة معي كل شيء نبض بإسمك}سكت هنيهة,ثم قال بصوت خافت..{لقد إخترتك..لاإني لا أتصور الحياة بعيدا عنك..بعيدا عن همساتك ..بعيدا عن نظراتك ,عن إحساسي بالدفىء و أنا أنعم بقربك..دعيني أحتفظ بدموعك,دعيني أروي لجرحك حكاياتي لعله ينام ,فتنام معه كل آلامك}
و لم يكن هناك شك في تلك العبارات التي قالها ..لأنه يعتقد أنها فرصة ليحضنها إلى قلبه بعيدا عن القرية قبل رحيلها غدا..و أمام جامع الكتبية بصومعته الشامخة ,بمصابيحه المضيئة ,و بضوء ساحته الخافت أمالت رأسها على كتفه فأخدت لهما شابة صورة ذهبية .صورة بنكهة مراكشية ..صورة أحست قلبها يستحم في موجة دافئة من الأمل..الأمل الذي صار حقيقة يبادلها الخطى ببدلته الجميلة العطرة قائلا..
{أغمضي عينيك,و آفتحي حقيبتك,و عاهديني أن لا تري هذه الهدية البسيطة إلى حين وصولك إلى طنجة}
{ولكن تعرف إني لا أحب المفاجأت }
{ولا تخافي..إن أفضل هدية في الكون,لن تجدي من يهديها لكي...}فراودها إحساس أصابت به الهدية...قائلة.. {عرفتها.. قرآن عظيم .. شكرا لك, كم أنت جميل }. والذي زادها تعلقا به .. عشقها للحياة في كنف كلمات طيبة, كلماته التي تزيل عنها الألم, كلمات كان يكتبها إليها عن كل مناسبة.. عند كل لحظة يقف فيها شاعرا ليصفها إهنا امرأة ترى الحياة طيبة, وتجد كل شيء فيها طيب, حتى الدموع, وحتى الألم.. إنها تحب أن تبكي, وتحب أن تياس, تحب أن تكون حزينة آسية, إنها تحب الحياة على الرغم من كل شيء؟. ومن هنا, كانت بقلب حزين تحت الأضواء الخافتة قد ارتعش كيدها شوقا إليه لأنها لا تطيق فراقه,وهي تقرأ أخر رسالة .. وفي داخلها عين ناشفة تنظر..
{إلى أغلى فتاة أحببتها
إلى أعظم امرأة عرفتها
إلى من أيقظت في قلب نار
الحب والشوق.
إلى فتاة الشمال التي طالما
أردتها في حياتي.
إلى فتاة الشمال البيضاء
في عيني وقلبي.
إلى من تدير كيان حياتي بكلمة
واحدة منها
إلى حبي الأول والاخير
إلى أوستين
حبيبك سامي}
تم طوقت عنقها بذراعيه, وألصقت خدها المعطل المبتل بخده..واختلطت دموعهم..فأمتزجت دموع العاشقين..؟
انتهى.
اسماعيل البحراوي
سنة 2007